التاريخ هو سجل حافل بالأحداث الجميلة والحزينة وله حرمته من المنظور الأخلاقي والمهني فهو يشكل هوية كل قرية ومدينة ودولة وحضارة والحفاظ عليه هو حق للجميع وليس لأي كان الحق في تغييره أو شطبه. في بلادنا العزيزة هناك تساهل كبير بحيث يجري تغيير المعالم التاريخية لكل شيء تقريبا من مباني ومجسمات إلى مواقع ومسميات تاريخية بجرة قلم.
تنشأ المدن في العادة من بذرة أولى عبارة عن حي أو عدة أحياء متقاربة تنموا على مر التاريخ لتتشكل منها تلك المدن. مدينة القطيف مثلا تكونت من عدة أحياء تاريخية موغلة في القدم مثل القلعة والكويكب والشويكة والدبابية والمدارس والحيين التجاريين الواقعين في وسط المدينة القديمة مياس والشريعة.
معالم مدينة القطيف القديمة تلاشت في معظمها وقد تطرقت في مقال سابق بعنوان "تأهيل مراكز المدن" بأن القطيف تميزت بتراث عريق في فن العمارة وخير مثال على ذلك قلعة القطيف التي قدمت أفضل انموذج لفن العمارة الخليجي بسورها وأبراجها العالية ومبانيها وأزقتها المميزة ولكنها مع الأسف أصبحت أثرا بعد عين. حدث ذلك في بضع سنين بدأت بتهديم الأسوار ثم السكك «اسم يطلق على الأسواق المسقوفة» ثم المباني القديمة من بيوت ومساجد ومقاهي شعبية والأزقة المسقوفة المعروفة بالساباط. ما حدث في مدينة القطيف حدث مع الأسف في غيرها من المدن مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة حيث اختفى كثير من المباني والمواقع التاريخية بتراثها الإسلامي العريق وذلك نتيجة لعدم المبالاة أو التعمد في أحيان أخرى بسبب وجهة نظر يتبناها البعض ممن يملكون القرار.
على سبيل المقارنة فقط ولأخذ الدروس والعبر، في مدينة نيوأوريانز وهي من المدن الكبيرة بأمريكا مازال يطلق على الحي القديم فيها "الحي الفرنسي" حيث أسست المدينة على يد الفرنسيين. سكان هذه المدينة يتكونون من أصول متعددة مثل الفرنسيين والإيطاليين والأسبان والأفارقة وغيرهم وتنعكس حضارة هذه الفئات المتعددة في كل شيء مثل الاستعراضات الفلكلورية والمطاعم المتنوعة التي تحاكي ذلك التعدد. هذه المدينة مثال حي على التعايش السلمي الذي وصل إلى حد الذوبان بين سكانها دون أن تلغي أي فئة الفئة الأخرى.
جهد السكان للحفاظ على المواقع التاريخية لمدينتهم كما هي وقاموا بإبراز أهم الأحداث التي مرت بها على مدى العصور. الحي الفرنسي مثلا مازال على طابعه القديم من حيث طابع المباني والأسواق والشوارع الضيقة. ميادين الحي الصغيرة تحكي ما مر بالمدينة من أحداث فتجد موقع يحكي قصة حريق شهير مع مجسمات لرجال الإطفاء الذين شاركوا في إطفاء الحريق والذين فقدوا حياتهم جراء ذلك. كما تجد المرشد السياحي وهو يجتهد ليحكي التفاصيل التاريخية الدقيقة للمدينة ومنها اضطرارهم لرفع مناسيب جميع شوارع الحي القديم دورا كاملا لمعالجة مشكلة الفيضانات التي كانت تداهمهم بشكل متكرر قبل إنشاء حاجز على امتداد النهر لحماية المدينة.
يقول فرانشيسكو باندارين مدير مركز التراث العالمي لليونسكو: من الصعب اليوم البحث عن دولة من دون تشريعات محددة للحفاظ على المناطق الحضرية والتراث العمراني. التراث العمراني لا يعكس فقط عادة تجسد القيم في "الآثار" لكنه يمثل أيضا الهويات المدنية ويعبر عن التطور التاريخي. ويقول الدكتور صالح لمعي مصطفى مدير مركز حفظ التراث المعماري الإسلامي بالقاهرة: هناك حاجة ماسة لوضع خطة رئيسية لحفظ التراث العمراني على مستوى العالم، وهذا لا يعني فقط الحفاظ على المواقع الأثرية والمباني التاريخية، ولكن أيضا الأبعاد البيئية فضلا عن العلاقات الإنسانية وفي العمق التراث غير المادي. ويقول الأستاذ بجامعة روجر ويليامز بأمريكا حسن الدين خان: الإسلام يعلمنا أننا أمناء على الأرض، لذلك من الضروري التزام الحفاظ على المباني التاريخية لأنها تحوي في داخلها ذاكرتنا الجماعية وهدم أي منها يجعلنا نفقد جزءا لا يتجزأ من هويتنا.
يعبر التراث المعماري في واقعه التاريخي عن ملامح الشخصية الحضارية في عصورها المختلفة ويحمل في مفرداته البصمات الحية لهذه الشخصية في كل مناحي الحياة. لذا فإن من المحزن جدا ضياع هذا التراث المعماري من منطلق أن العمارة هي معيار الحضارة، وعلينا العمل على الحفاظ على ما تبقى من معالم تاريخية وصيانتها لتظهر بشكل لائق وكذلك منع أي مساس بالمواقع والتسميات التاريخية كجزء من الهوية الوطنية.
لا شك أن حسن اختيار الأسماء لتتناسب مع تراث المنطقة الديني والبيئي والاجتماعي دليل على الوعي والفهم والثقافة والتميز والأصالة ورحابة الفكر. تسميات الشوارع والأحياء ينبغي أن تعكس تاريخ وتراث كل مدينة فبعض أحياء القطيف الجديدة تحمل أسماء مثل "حي الرابعة" و"حي الخامسة" وكأن المنطقة بلا تاريخ وبلا ثقافة. كان من الأولى دمج "حي الرابعة" تحت اسم "حي الجزيرة" لوقوعهما على أول شارع يربط بين مدينة القطيف وجزيرة تاروت، كذلك إطلاق اسم "حي الميناء" على "حي الخامسة" لاحتلال الحي موقع ميناء القطيف القديم. هذا أيضا ينطبق على أحياء المدن الجديدة التي من الأولى أن تعكس تعدد انتماءات وتنوع تراث سكانها وتاريخ وتراث المنطقة التاريخية المجاورة لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اكتب تعليقك في الحقل بالأسفل ، وذلك بعد اختيار عنوان URL ، واكتب بريدك الالكترواني مكان الرابط ، او يمكنك اختيار مجهول ، وكتابة اسمك ضمن التعليق ..